الحداثة المتقادم .!!./ أحمد سالم زياد














بعد أفول نجم الرومانسية من سماء الأدب؛ وبعد انتشار
المدرسة الرمزية وسيطرتها على منابر الشعر وأروقة النقد؛ هاهي المدرسة التي كانت
حداثية تنحني -ليس شيخوخة فقط- إنما لتسلم المشعل لمدارس أدبية أحدث، أكثر انتماء للعصر
وانسجاما معه... وتلك "الأيامُ".. وهكذا سنة التداول. وحق على الله أن
لا يرفع شيئا إلا وضعه.









اليوم أوغدا.. ستجد المعاول التي كانت تبني بجد؛ تهدم
بحماس، والأيادي التي كانت ترفع إلى أعلى عليين
تضع في أسفل سافلين، والأسماء التي كانت تذكر باحترام وتبجيل؛ تذكر تمثيلا على
ومرحلة من مراحل الإنحطاط، ككبوة في طريق الأدب أوعثرة من عثرات المارين من طريقه..!!

لم تكن الحداثة الرامزة رحيمة ولا شفيقة بالمدارس التي
جاءت قبلها، ولا أظن وريثتها ستكون بارة بها، فكما تدين تدان. والجزاء من جنس
العمل.




لقد واكبت الحداثة نشأة الدولة والإزدهار الحضاري
المعاصر؛ فارتبطت في الذهن الجمعي بالتطور، وارتبطت المدارس غيرها بالتخلف والفقر
والتشتت والتقليد المتصل سندا بأجداد الأجداد...!!

كما تبنتها النقاد واعتمدتها النطم التدريسية منهجا،
ودافع عنها الأساتذة..!!




في حين أن المنصفين جلسوا هناك، ينتظرون جلاء الغبار،
وانحسار الموجة، ليميزوا الخبيث من الطيب، بمعايير جمالية تواضع عليها العقلاء من
لدن النابغة حتى يوم الناس هذا...

فللموضة بريقها المتحكم في عقول عشاقها، لكن الذين
يعرفرن الجمال جيدا؛ يعروفون أنه لا يتغيرجوهره، وإن تعددت أشكاله، وتلونت
أصنافه.. ليظل الجميل جميلا!

فالذهب والفضة لا يزالان يتصدران قائمة الزينة، غير
متأثرين ببهرج المعادن الأخرى، التي سرعان ما يملها الإنسان ويتجاوزها..!!




ليس أحد المذهبين :الكلاسيكي والحداثي مكتسب سليقة، ولا
يتوصل إلى أحد منهما جبلة، وليس أحد منهما -بالنسبة لأهل العصر- مأخوذ من حياة
الناس وهم يصارعون من أجل الدينار والدرهم والخميلة..

كلا -والله!- فكل منهما مكتسب اكتسابا، متعلم من أفواه
العلماء.. مستنبط من بطون الكتب...

وإن كانت جادة الكلاسيكية أقرب للطبيعة وأكثر تناغما
معها، وأوضح معالم وأقوم عبارة من الحداثة، فالحداثة لحداثتها العمرية لم تحككها
السنون ولو تشذبها التجارب، فكانت تجربة عابرة، استفاد منها الأدب كما استفاد من سابقاتها..

وظلت الكلاسيكية مهيعا واضحا، تتخلله سبل كثيرة، ليس
منها سبيل في طوله، ولا سكة في عرضه.. لن أقول أن الكلاسيكية أصل الأدب، وإن كانت تقترب
من ذلك! وإن لم تكنه فإن جذورها ضاربة فيه..!!




إن الإستغراق في الرمز؛ واستغلاقه أمام غير المتخصصين؛
يماثل إفراط كلاسيكية عصر (الإنحطاط) في المحسنات
البديعية، وتقعهرها وتتبعها وحشي اللغة ومهجورها..!!

غير أن إستغلاق الاكلاسيكية على علاته يتوصل إليه بمفاتيح
معاجم اللغة والقواميس؛ خلاف الحداثة الرامزة التي يبقى كثير من دررها في بطن
الشاعر، ويضيع المتلقي غالبا عن الآخر، ويضيع الباقي بين ذلك وذلك!!

إن كان ثمة عنت يجده الذي يعالج فهم قصيدة من الشعر
الكلاسيكي؛ فإن قاموسا صغيرا يكفيه، فتفتح كل المستغلقات أمامه..!! غير أن عَنَته
ذلك؛ يبقى يسيرا أمام فتح رموز قصيدة حداثية، فقد يلزم بقراءة مئة كتاب؛ دون أن
تنفك تلك العقد والرموز والإيحاءات..!!




أتصور أنه يأتي زمان وقد تغيرت الثقافة العالمية وتبدل
وجهها؛ فتضيع رموز كثيرة، لتبقى تلك التوابيت مغلقة على ما فيها من إرث إنساني
نفيس، يعامله اللاحقون كما يعامل علماء الآثار البقية المتبقية من تركة الفراعنة...

لقد ازدهرت القصيدة العربية العتيدة في البئات العربية
القديمة؛ لأنها وليدة البئة ومتناغمة معها!!

وازدهرت كذلك القصيدة الحرة الرمزية في المجتمعات الأربية
المعاصرة؛ لأنها وليدة بئتهم وهكذا يتكلم عامتهم ويكتب خاصتهم..!!

أما القصيدة الكلاسيكية العمودية في حياتنا اليوم؛
والقصيدة الحرة الرامزة؛ فكلاهما مزروعة في بئة غير بئتها الأم، وإن كانت بئتنا
للبئة العربية القديمة أقرب، بل نحن امتداد لتك البئة وتطور لتلك المجتمعات، فلن تحتاج
تلك القصيدة إلى تأشرة دخول خلاف ضرتها الشابة..!!

للرمز جماله ورقيه؛ لكن الإكثار منه ضار، وحور بعد كور،
وارتكاس للخلف، وارتماء في أغلال العياية، وخنوع لقيود الحصر...!!

شأن اللغات الراقية الخروج من ضيق الحقيقة إلى رحابة
المجاز، والتنويع بالإستعارة مخافة السآمة، والترويح بالكناية طلبا لطرافة، وشحن
الذهن بالملاحن والتوريات والتعمية..!!

لكن، ليس إلى درجة أن يصبح العيي بليغا.. والحصر خطيبا..!!

فقليل من المحسنات حسن، وقليل من البديع بديع، وقليل من
المجاز جائز، والإكثار من الكناية عياية، والإكثار من الملاحن لحن، والإكثار من
التعمية ...!!.




والقول الفصل فيها عند من تتبع سنن العرب : أنها
محسنات؛ الإكثار منها؛ جنوح عن الجادة، وبعد عن الفطرة السليمة إلى وحل التكلف..!!

وكذلك نقول عن الرمز؛ مادمنا لم نصل إلى مرحلة الغربيين..!!

من العيب أن تجد شاعرا عربيا لا يعرف معاني مفردات لغته!!

إن اللغة هي الطينة التي يصنع منها دماه التي تجسد
أفكاره؛ فكيف لا يعرفها حق المعرفة!!

كيف تتصور أن رساما لا يعرف كيف يمسك بريشته ولا يعرف
كيف يمازج بين ألوانه..!!

لا فرق كبير بين طفل لم تكتمل بعد معرفته للغته؛ ورامز
موغل في الغموض، حد الهرطقة والسفسطة..!!

أحدهم يقول :الشمس مثل قدم طفل..

إن وجه الشبه بين الشيئين تافهة تفاهة المعنى الذي شوهت
من أجله الكلماتُ ظلما وعدوانا!!

وللعرب فنياتها في التشبيه، ولا يجوز للعربي أن يشبه
الأعلى بالأدني غير قاصد الذم وقد خفي وجه الشبه حتى لا يدركه المتتبع إلا بعد جهد
وعنت شديدين.!!.

الكلماتُ أكياس وظروف نضع فيها المعاني!!

وأحيانا تكون أفكار المرء أوسع من كلماته، وأحيانا أخرى
يكون العكس. والحسن الأحسن أن يكونا متكافئيين!!

والرامز المستورد بضاعته من كل بلاد العالم؛معانيه أوسع
بكثير من كلماته، لفقر في اللغة ازداد مع الطفرة في المستوردات..!!

وليس فقر اللغة العربية صاحبة خمس ملايين مفردة،
والمرِنة جدّا أمام النحت والتوليد والتخصيص والنقل...!!!

إن الإفراط في الرمز، والإيغال في الغموض؛ يغلق باب
الأدب في وجه غير المتخصصين المتعمقين، شأن رموز رياضيات والكيميا والمنطق
والفلسفة...

وإن كان أهل تلك العلوم يعذرون؛ لأنها علوم متخصصة، لا
يطلب من غير الخائضين غمارها معرفة رموزها، ولأن الرمز يطوي كثيرا من الكلمات فيه ويختصر
الكلام أمام المتعلم.

عكس الأدب! فالأدب للناس كافة، يخاطب المثقف ويمتعه،
ويسلي العامي ويثقفه..!!




ولو أن الشعر اقتصر على الشعراء؛ لاحتاج الجمهور
لابتكار فَنِّ جديد، يسد مسده، وقد يطلق عليه اسمه القديم، إن لم ينفر منه العامة
إلى غيره من الأسماء، مللا وسآمة من شعراء؛ عقّدوا وتعقّدوا واعقوْقَدوا..!!




فأصل الشعر الغناء، وأول لحن غنته العرب كان بسيطا جدا جدا..
وهو صرخة راع متأوه، حسن الصوت؛ ضربه سيده على يده بالسوط، فقال :

وايداهُ !! وايداهُ!!

فتحركت الإبل واجتمعت عليه..!!


آخر تحديث: 13-06-2013 | 22:43
شارك

حرره

عبد الله الخليل

قسم تحرير الأخبار وصناعة المحتوى

فيديو الأسبوع