"ملك اليمين" قراءة معاصرة بقلم الباحث في قضايا الدين والمجتمع محمد عبد الله

لم يبح دين الإسلام الرق والعبودية يومًا، لكن العقل الجمعي للأزمنة القديمة كان يعتبر الرق أمرًا عاديًا، ولم يكن العقل الجمعي آنذاك يستنكر العبودية والرق. لكن مع تطور المجتمعات وتطور حقوق الإنسان وتطور المجتمعات نحو حياة أكثر رقيًا وتكريمًا للإنسان، وصولًا إلى يومنا هذا الذي حُرِّم فيه الرق وأصبح مستنكرًا وانتهاكًا لحقوق الإنسان، أصبح من الضروري التنبيه أن كتاب الله، الذي هو القرآن، عودًا إلى بدء، لم يبح الرق يومًا، ولكن الناس أو المؤمنين فهموا "ملك اليمين" فهمًا خاطئًا، واتهموا الدين الإسلامي من خلاله بأنه يناصر العبودية والرق. وفي هذا المقال سنوضح المعنى الصحيح لملك اليمين في كتاب الله، والذي لا يعني إطلاقًا العبودية أو الرق.

 

يمكن إلغاء نظام الرق، لكن لا يمكن إلغاء الأعمال التي كان يقوم بها الأرقاء، مثل العمل والخدمات المنزلية والعلاقة الجنسية. وهذه الأعمال هي التي تحدث عنها كتاب الله، وأبقى عليها، لأنها من حاجات البشر الأساسية، لكن دون أن تستمر في إطار العبودية. فبقراءة جديدة وصحيحة لمفهوم ملك اليمين من كتاب الله، نفهم أن العلاقة المقصودة ليست عبودية، بل عقد بين أحرار، يشمل العمل والخدمة والزواج أو العلاقة الجنسية، ضمن ضوابط تحفظ الكرامة وحقوق الإنسان. فالعامل هنا يؤدي عملاً مقابل أجر، ويمكنه فسخ العقد متى شاء وفق شروطه، لأن العلاقة قائمة على التراضي بين طرفين حرّين، لا على القهر والاستعباد.

 

وملك اليمين هذا يكون كما سبق وذكرنا في ثلاثة أمور، هي الزواج، والأعمال، والأعمال المنزلية، سنتطرق إليها بالتفصيل في هذا المقال.

 

_أولًا: الزواج أو الزواج المدني:

وهو عكس زواج الميثاق، الذي يكون فيه الطلاق والمحلل... ففي زواج ملك اليمين، يكون عقد بين أحرار: امرأة ورجل عاقلين، اتفقا على ممارسة الجنس بمحض إرادتهما، أو إقامة علاقة، أو إنجاب أطفال حسب شروط العقد.

وفي زواج ملك اليمين، ينفصلون متى أرادوا، ويرجعون متى أرادوا دون محلل، لأن زواج ملك اليمين يشبه الزواج المدني: عقد متى أراد أصحابه أن ينفصلوا انفصلوا، ومتى أرادوا أن يعودوا عادوا.

 

قال تعالى:

"الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ۖ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ ۖ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ ۗ وَمَن يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ"

سورة المائدة، الآية (5)

 

وهذه الآية هي التي تتحدث عن ملك اليمين في الزواج، وسنوضح محتواها حتى تتضح الرؤى:

"اليوم أُحلَّ لكم" يعني أن الله هنا يذكر حلّية أمور لم تكن حلالًا.

وهنا عندما ذُكرت المحصنات، من المعلوم أن المحصنات كنّ حلالًا على المؤمنين، فهو يقصد هنا حلّية أمر لم يكن حلالًا، وهو ملك اليمين، والمقصود في الآية بـ"الأجر" هو شروط العقد.

"مسافحين ولا متخذي أخدان" يعني أن العلاقة بين أصحاب العقد، الذكر والأنثى، مباحة ما لم يكن فيها سفاح، أي الجنس الجماعي، أو الأخدان، أي المثلية الجنسية.

"ومن يكفر بالإيمان" أي العقد، أي من خرق العقد ظلمًا من الطرفين، فقد حبط عمله، وهو في الآخرة من الخاسرين.

 

 

ثانيًا: الأعمال أو العمل

 

وهذا النوع من أنواع ملك اليمين المنتشر في العالم، هو العقد الذي يكون بين المؤسسة والعامل، أو ما يُعرف بعقد العمل.

فمثلًا، الشخص في وظيفته أو عمله يبرم عقدًا مع الشركة أو المؤسسة أو الجهة التي يعمل لديها، ويتضمن هذا العقد أنه يعمل لصالح الشركة عددًا محددًا من الساعات، مقابل الأجر الذي يتقاضاه في نهاية كل شهر.

 

وقد ذكر الله ملك اليمين في الآية 28 من سورة الروم بقوله تعالى:

 

 ضَرَبَ لَكُم مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ ۖ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ۚ كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. 

 

ففي هذه الآية، يبيّن الله سبحانه وتعالى قواعد العمل السليم، وكيفية الحفاظ على الكفاءات في مجال العمل.

فمثلًا، إذا كانت لديك شركة تضم عمّالًا أكفاء يقدمون أداءً متميزًا ويساهمون في تحسين أداء الشركة، فعليك أن تزيد رواتبهم وتمنحهم امتيازات، حتى لا يستقيلوا ويذهبوا إلى شركة أخرى، فَتخسرهم.

وهذا هو المقصود من هذه الآية التي تتحدث عن ملك اليمين في سياق العمل، أو ما يُعرف اليوم بعقد العمل.

 

 

 

ثالثًا: الأعمال المنزلية

لماذا ميَّز الله بين الأعمال العامة والأعمال المنزلية؟ لأن العامل في منزلك قد يطّلع على كثير من أسرارك، كونه يعمل داخل بيتك، والبيت قد يحتوي على خصوصيات لا يجوز لأحد الاطلاع عليها.

 

لذلك، فإن الآية الكريمة التي تتحدث عن ملك اليمين في الأعمال المنزلية وضعت ضوابط للعاملين في المنزل، حفاظًا على خصوصية صاحب البيت.

قال سبحانه:

"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ۚ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ۚ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ ۚ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"

سورة النور، الآية (58).

 

وقد حدد سبحانه الأوقات التي يجب على العامل في المنزل أن يستأذن فيها قبل الدخول على أهل البيت، وهي أوقات مخصوصة ذُكرت في الآية، احترامًا لخصوصيتهم.

 

وفي الأعمال المنزلية، يكون هناك عقد بين العامل وصاحب المنزل، وهو عقد بين أحرار، يعمل فيه العامل في المنزل مقابل أجر متفق عليه، في إطار من الاحترام والخصوصية

 

 

ومما ذكرنا، يتبين أن "ملك اليمين" في كتاب الله لا يعني الرق أو العبودية أو انتهاك حقوق الإنسان وكرامته، بل هو عقد بين أحرار في الأمور الثلاثة سابقة الذكر. والله سبحانه وتعالى يستحيل أن يذكر في كتابه ما يمس كرامة الإنسان، لأنه هو من كرّم الإنسان بقوله: "ولقد كرمنا بني آدم".

 

والفهم الخاطئ لمعنى "ملك اليمين" هو ما جعل البعض يظن أن كتاب الله يبرر العبودية، وهذا خطأ، فكتاب الله يحترم إرادة الإنسان، والإيمان في أصله مربوط بالحرية، كما قال تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".

 

أما السبب في عدم إلغاء العبودية قديمًا، فهو أن العقل الجمعي في ذلك الوقت كان يتقبلها، لكن مع تطور المجتمعات أصبحت العبودية مرفوضة ومستنكَرة. غير أن الأعمال التي كان يقوم بها الأرقّاء لا يمكن إلغاؤها، فجاء كتاب الله ليصيغها في إطار "ملك اليمين"، مُلغياً بذلك العبودية، ومُبقياً على علاقة تعاقدية بين أحرار تحفظ للإنسان حريته وكرامته، وهي ما يُمثله "ملك اليمين".

الأستاذ :  محمد عبدالله 

باحث حر في قضايا الدين والمجتمع

آخر تحديث: 22-07-2025 | 13:31

هاشتاك آراء

شارك

حرره

محمد الأمين أحمد

محرر أخبار وصانع محتوى تفاعلي بتكنت منذ مايو 2024

قصص ذات صلة

"الحجاب" قراءة معاصرة-محمد عبد الله

عام الانعطاف الواثق: من التأسيس إلى التثبيت.. محمد ناجي أحمدو

الأدب الأفريقي: تجربة غنية مع أبرز الأدباء والكتّاب

فيديو الأسبوع